فصل: تفسير الآية رقم (285):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (283):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [283].
{وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ} أي: مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} أي: فالذي يستوثق به رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق، وثيقة لدينه. هذا إذا لم يأمن البعضُ البعضَ بلا وثيقة: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} وهو المدين. وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقاً للإعلام، ولحمله على الأداء: {أَمَانَتَهُ} أي: دينه. وإنما سمي أمانة: لائتمانه عليه بترك الارتهان به: {وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ} في رعاية حقوق الأمانة. وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير مالا يخفى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ} أيها الشهود: {الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}.
قال الزمخشري: فإن قلت هلا اقتصر على قوله فإنه آثم. وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟
قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتلكم بها. فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول، إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي. ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله. فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط. وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه. ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح. وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب. فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معظم الذنوب. وقرأ {قلبه} بالنصب. كقوله: سفه نفسه. وقرأ ابن أبي عبلة: {أثم قلبه} أي: جعله آثماً: {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم: {عَلِيمٌ}.

.تفسير الآية رقم (284):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [284].
{لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ} أي: تظهروا: {مَا فِي أَنفُسِكُمْ} من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح: {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} قال أبو مسلم الأصفهاني: إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ومعنى هذا الملك، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه. ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لابد أن يكون عالماً بها. إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به. فكأن الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض، مع ما فيها من وجوه الإحكام والإتقان، على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها.
قال الشعبي: إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه، بيّن أن له ملك السماوات والأرض، فيجازي على الكتمان والإظهار. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا} إلخ نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا». قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلت: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت: {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا} قال: قد فعلت. وفي مسند عبد الله بن حميد والطبراني: قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها. وصار الأمر إلى أن قضى الله تعالى أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل. أقول إن ما جاء من أن الآية هالت من هالت من الصحابة، فإنما جاءه من عمومها ومن قوله: {يُحَاسِبْكُمْ} إذ حمله على حساب المؤاخذة، فأما عمومها فنظمها ظاهر فيه. إلا أنها تتناول الشهادة وكتمانها أولاً وبالذات. وغيرها ثانياً وبالعرض. وأما حمل الحساب على المؤاخذة والانتقام فإن كان عرفياً أو لغوياً فالإخفاء حينئذ مراد به إخفاء متفق على حظره. كنفاق وريب في الدين. ولا إشكال في الآية. وقد يؤيده ذكر الإيمان بعده. ويكون ختام السورة بالإبداء والإخفاء بمثابة رد العجز على الصدر. لافتتاح السورة بالمؤمنين والكافرين وما لكل منهما. وإن لم يكن الحساب حقيقة فيما ذكر بل كان معناه إيقافه تعالى العبد على عمله خيراً أو شراً وإراءته عاقبته الحسنى أو السوءى، وهو الذي يظهر، فلا إشكال أيضاً. فما روي عن بعض الصحب عليهم الرضوان منشؤه قوة اليقين وشدة الخوف من هول المطلع مع ورود الحساب في كثير من الآيات في معرض أخطار القيامة مما يحق أن يخفق له فؤاد كل مؤمن. ولا تنس ما أسلفنا في المقدمة وفي غير موضع، أن قولهم: نزلت في كذا، قد يراد أن كذا مما يشمله لفظ الآية لعمومها له ولغيره. وهكذا هنا. فالآية وإن كان سياقها في الشهادة وكتمانها، إلا أنها تتناول غيرها بعمومها. ولذلك دخل فيها الوسوسة وتوهم ما توهم. وقوله في الرواية: فأنزل الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} لا يتوهم التراخي بين ما دخل قلوبهم وبين نزولها، بل المراد، كما أسلفنا في سبب النزول، أن لفظ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ} إلخ الذي نزل معها مبين أن لا حرج في مثل الوسوسة ونحوها. فافهم فإنه نفيس جدًّا. وبه يزاح عنك ما يبحث فيه الكثيرون في هذه الآية ويرونه من المعضلات. وبالله التوفيق.
هذا وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي ما وسوست بها صدورها، ما لم تعمل أو تكلم». وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه. فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن علمها فكاتبوها عشراً» {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} وقرئ برفع الفعلين على الاستئناف أي: فهو يغفر الخ. وبجزمهما عطفاً على جواب الشرط. وفي تقديم المغفرة على التعذيب إشعار بسبق رحمته تعالى على غضبه: {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قال الرازي: قد بين بقوله: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أنه كامل الملك والملكوت. وبين بقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا} الخ. أنه كامل العلم والإحاطة. ثم بين بقوله: {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أنه كامل القدرة مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام. ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات. والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له، خاضعاً لأوامره، ونواهيه، متحرزاً عن سخطه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (285):

القول في تأويل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [285].
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} أي: صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة: كان خلقه القرآن والترقي بمعانيه والتحقق: {وَالْمُؤْمِنُونَ} أي: كذلك آمنوا.
قال الزجاج رحمه الله: لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والربا والدين، ختمها بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} لتعظيمه وتصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لجميع ذلك المذكور قبله، وغيره ليكون تأكيداً له وفذلكة.
لطيفة:
قوله: والمؤمنون إما مبتدأ والجملة بعده خبر. أعني: كلٌّ آمن. والعائد إلى المبتدأ التنوين القائم مقام الضمير في كل، لأن من جملة العائد إلى المبتدأ التنوين النائب مناب الضمير. وإما معطوف على الرسول، فيكون التنوين راجعاً إلى الرسول والمؤمنين. وقد اختار كثيرون الأول. ومنهم العلامة أبو السعود، وأطال في توجيهه. وعندي أن الوجه هو الثاني، لأن المقام لتعداد المؤمن به. وذلك يشترط فيه الرسول وأتباعه. وإن كان كنه إيمان الرسول لا يشاركه فيه غيره. فالمقام ليس مقام الخصوصية. والله أعلم.
{كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ} أي: يقولون: لا نفرق: {بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} أي: برد بعض وقبول بعض، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا} أي: قولك وفهمناه: {وَأَطَعْنَا} أي: امتثلنا أمرك وقمنا به واستقمنا عليه. ولما علموا أنهم لا يخلون من تقصير، وأن الرب يغفر لمن يشاء قالوا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي اغفر لنا غفرانك. أو نسألك غفرانك ذنوبنا. وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي: الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك، وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى لمغفرة. لما أن الرجوع للحساب والجزاء.

.تفسير الآية رقم (286):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [286].
{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه.
قال الرازي: يحتمل أن يكون هذا ابتداء خبر من الله. ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} على نسق الكلام في قوله: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}. وقالوا: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا} فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح. وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ثم قال الرازي: في كيفية النظم: إن قلنا: إن هذا من كلام المؤمنين، فوجه النظم أنهم لما قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا. فإذا كان هو تعالى، بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين. وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى، فوجه النظم أنهم لما قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ثم قالوا بعده: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا}، دل ذلك على أن قولهم: {غُفْرَانَكَ}، طلب للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد. فملا كان قولهم غفرانك، طلب للمغفرة في ذلك التقصير، لا جرم خفف الله تعالى ذلك عنهم. وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. والمعنى: أنكم إذا سمعتم وأطعتم، وما تعمدتم التقصير، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه، فإن الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم: غفرانك ربنا.
قال زين العابدين بير محمد درة في المدحة الكبرى: وعلى احتمال أن يكون قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ} إلخ حكاية، فهو من قبيل العطف بلا عاطف. أو الكلام على تقدير قالوا. قال بعضهم: ولك أن تجعل: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ} إلخ في حيز القول. وأن يكون حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين، يكون مدحاً لهم بأنهم شاكرون لله تعالى في تكليفه. حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم. وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير، بل هو لهم، ولا يتضرر بعملهم الشر، بل هو عليهم.
وقال البقاعي: وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه من ذلك، خوفاً من أن يكلفوا بما لله تعالى، أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس، لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه.
ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم. ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفه عنهم. ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله تعالى جزاء لهم على قولهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، الآية. فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس. فانتفى ما شق عليهم من قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}، الآية. بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم: سمعنا وعصينا، من الآصار في الدنيا والآخرة. فيكون حينئذ استئنافاً جواباً لمن، كأنه قال: هل أجاب دعائهم؟!. ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستنتاج بقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال العلامة أبو السعود: قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} الخ. للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها، ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها. ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها. فإن اختصاص المنفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله. واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته. أي: لها ثواب ما كسبت من الخير الذي كلفت فعله، لا لغيرها. وعليها لا على غيرها عقاب ما اكتسبت من الشر الذي كلفت تركه. وإيراد الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه.
قال الحرالي: وصيغة فَعَلَ مجردة، تعرب عن أدنى الكسب، فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.
لطيفة:
وقال الجاربردي في شرح الشافية: معنى الكسب تحصيل الشيء على أي: وجه كان. والاكتساب: المبالغة والاعتمال فيه. ومن ذلك قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. وفيه تنبيه على لطف الله تعالى بخلقه، إذ أثبت لهم ثواب الفعل على أي: وجه كان. ولم يثبت عليهم عقاب الفعل إلا على وجه مبالغة واعتمال فيه.
قال الزمخشري: لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله، وصفت بما لا دلالة له على الاعتمال والتصرف. انتهى.
قال العلامة ابن جماعة في حواشيه: تفرقته بين الكسب والاكتساب هو ما قال الزمخشري وغيره، ونص عليه سيبويه. قال الحلبي: وهو الأظهر. وقال قوم: لا فرق. قالوا: وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَة} [البقرة: 81].
وقال تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58]. فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر. وقال الواحدي: الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد. وفي القاموس: كسبه يكسبه كسباً، وتكسب واكتسب: طلب الرزق. أو كسب أصاب، واكتسب تصرف واجتهد. ثم قال ابن جماعة: ما ذكره من تنبيه الآية على لطف الله بخلقه إلى آخره، قاله ابن الحاجب في شرح المفصل. وبمعناه قول بعضهم: في الآية إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرماً من الله على عبده، بخلاف العقوبة، فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدّ فيها واجتهد، وقريب منه قول آخر: للنفس ما حصل من الثواب بأي وجه اتفق حصوله، سواء كان بإصابة مجردة أو بتحصيل، وعليها ما حصلته وسعت فيه لا ما حصل من غير اختيار وسعي. نبّه تعالى أن الثواب حاصل لها سواء كان بسعيها واختيارها أو لم يكن كذلك. وأما العقاب فلا يكون عليها إلا بقصدها وتحصيلها.
وما قالوه من الفرق يحتاج إلى ثبت. وقد قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8] أي: يرى جزاءه. وقال:: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. على أن ترتب الثواب على ما حصل من غير سعي واختيار، إن كان لمباشرة سببه مع الغفلة عنه، فالعقاب أيضاً كذلك. فمن عمل سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها، وإن صوّر بالإصابة عند أول الالتفات فلا مانع أن يكون العقاب مثله. ومدعي خلافه وعليه البيان. نعم الإصرار شرط، لأن الرجوع يمحوه لكنه قدر زائد على الفعل. وبالجملة فما قاله جار الله حسن، وقد ذكره البيضاوي أيضا. وفي الإعراب الحلبي: الذي يظهر في هذا، أن الحسنات مما تكسب دون تكلف؛ إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب بتكلف؛ إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها. فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازاً لهذا المعنى والله اعلم. ثم قال ابن جماعة: والمبالغة: من بالغ مبالغة اجتهد ولم يقصر. والاعتمال: من اعتمل أي: عمل بنفسه وأعمل رأيه وآلته. انتهى.
قال البقاعي ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه من دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي، إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلاً، بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاء. ولا حملهم فوق طاقتهم. مع أن له جميع ذلك. وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم. ثم رحمهم بأن أحلّهم محل القرب فجعلهم أهلاً للخلافة. فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر. ويظهر دينهم على كل دين. وإذ كان سبحانه هو الداعي عنهم. وليكون الدعاء كله محمولاً على الإصابة ومشمولاً بالإجابة فقال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا} أي: لا تعاقبنا: {إِن نَّسِينَا} أمرك ونهيك: {أَوْ أَخْطَأْنَا} أي: ففعلنا خلاف الصواب، تفريطاً ونحوه.
وقد ولع كثير من المفسرين هاهنا بالبحث في أن النسيان الخطأ معفو عنهما، فما فائدة طلب العفو عنهما؟ وأجابوا عن ذلك بوجوه. وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد في المدحة الكبرى: لما كان طالب العفو الرسول والأنصار والمهاجرون، ومن كان على شاكلتهم، فكأنهم يعدّون النسيان من العصيان، والخطأ من الخطيئة. كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].
وقيل في معنى الآية: لا تعاقبنا إن تركنا أمرك أو اكتسبنا خطيئة. على أن يكون النسيان بمعنى الترك. والخطأ من الخطيئة. وعليه فلا إيراد، والله أعلم.
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} أي: عهداً يثقل علينا.
قال الحرالي: الإصر: العهد الثقيل الذي في تحمله أشد المشقة: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} وهو ما كلَّفه بنو إسرائيل مما يهدّ الأركان. ولا بأس بالإشارة إلى جمل مما حملوه من الآصار. ننقله عن أسفارهم تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا، وتعظيماً لمنته تعالى، فلله الحمد فنقول: في سفر الخروج في الأصحاح الثاني عشر:
(15) سبعة أيام تأكلون فطيراً. اليوم الأول تعزلون الخمير في بيوتكم. فإن كل من أكل خميراً من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل.
وكل هذا الأصحاح آصار شاقة.
وفي السفر المذكور، في الأصحاح الحادي والعشرين.
(15) ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً.
(16) ومن سرق إنساناً وباعه أو وجد في يده يقتل قتلاً.
(17) ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلاً.
(27) وإن أسقط سن عبده أو سن أمته يطلقه حراً عوضاً عن سنه.
(28) وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئاً.
(29) ولكن إن كان ثوراً نطاحاً من قبل وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلاً أو امرأة، فالثور يرجم وصاحبه أيضاً يقتل.
وفي السفر المذكور، في الأصحاح الثالث والعشرين.
(10) وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها.
(11) وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك. وفضلتهم تأكلها وحوش البرية، كذلك تفعل بكرمك وزيتونك.
(12) ستة أيام تعمل عملك. وأما اليوم السابع ففيه تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب.
(19) أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب إلهك.
وفي سفر العدد، في الصحاح الخامس عشر.
(37) وكلم الرب موسى قائلاً.
(38) كلم بني إسرائيل وقل لهم: أن يصنعوا لهم أهداباً في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجوني.
(39) فتكون لكم هدباً فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعملونها.
وفي السفر المذكور، في الأصحاح التاسع عشر:
(11) من مس ميتاً ميتة إنسان ما يكون نجساً سبعة أيام.
(12) يتطهر به في اليوم الثالث، وفي السابع يكون طاهراً. وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهراً.
(13) كل من مس ميتاً ميتة إنسان قد مات ولم يتطهر ينجّس مسكن الرب. فتقطع تلك النفس من إسرائيل، لأن ماء النجاسة لم يرش عليها تكون نجسة. نجاستها لم تزل فيها.
(14) هذه هي الشريعة. إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً سبعة أيام.
(15) وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس.
(16) وكل من مسّ على وجه الصحراء قتيلاً بالسيف أو ميتاً أو عظم إنسان أو قبراً يكون نجساً سبعة أيام. وتمام الفصل المذكور كيفية الطهارة من هذه النجاسة الشاقة جدًّا.
وفي السفر المذكور في الأصحاح الخامس والثلاثين:
(31) ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل.
وفي سفر التثنية، في الأصحاح الخامس عشر.
(19) كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدسه للرب إلهك. لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجزَّ بكر غنمك.
وفي سفر الخروج، في الأصحاح الرابع والثلاثين:
(20) وأما بكر الحمار فتفديه بشاة. وإن لم تفده تكسر عنقه. كل بكر من بنيك تفديه.
وفي سفر اللاويين، في الأصحاح الرابع:
(1) وكلم الرب موسى قائلاً.
(2) كلم بني إسرائيل قائلاً: إذا أخطأت نفس سهواً في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها.
(3) إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب يقرّب عن خطيئته التي أخطأ ثورا ابن بقر صحيحاً للرب. ذبيحة خطية.
وكيفية ذلك حرجة جدًّا. انظرها.
وفيه، في الأصحاح الخامس:
(1) أو إذا مس أحد شيئا ًنجساً جثة وحش نجس أو جثة بهيمة نجسة أو جثة ديبٍ نجس وأخفى عنه فهو نجس ومذنب.
(5) فإن كان يذنب في شيء من هذه يقرّ بما قد أخطأ به.
(6) ويأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيئته التي أخطأ بها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزاً من المعز ذبيحة خطية فيكفر عنه الكاهن من خطيئته.
والأصحاح المذكور كله آصار.
وكذا الأصحاح السادس بعده كله آصار.
وفي الأصحاح الحادي عشر تحريم بعض الطيور وفي آصار كثيرة، منها:
(33) وكل متاع خزف وقع فيه منها فكل ما فيه يتنجس، وأما هو فتكسرونه.
وفي الأصحاح الثاني عشر أحكام النفساء عندهم والفرق بين ولادتها ذكراً وأنثى. وإنها في الأول تكون نجسة أسبوعاً، ثم ثلاثاً وثلاثين يوماً. وفي الثاني أسبوعين ثم ستة وستين يوماً.
وعن تمام أيام طهرها تأتي بكيس كفارة عنها.
وفي الأصحاح الخامس عشر تشريعات لذوي الجراحات.
وفي ذلك آصار كبرى. انظرها.
وفيه أيضاً أحكام الحائض والآصار في شأنها. ومنها:
(19) وكل من مسها يكون نجساً إلى المساء.
(20) وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجساً، وكل ما تجلس عليه يكون نجساً.
(21) وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء.
وفي الأصحاح السابع عشر:
(15) وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنياً كان أو غريباً يغسل ثيابه ويستحم بماء ويبقى نجساً إلى المساء.
وفي الأصحاح التاسع عشر:
(23) ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء، لا يؤكل منها.
(24) وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدساً لتمجيد الرب.
(25) وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها، لتزيد بكم غلتها. أنا الرب إلهكم.
(27) لا تقصروا رؤوسكم مستديراً ولا تفسد عارضيك.
وفي الأصحاح الخامس والعشرين:
(3) ست سنين تزرع حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما.
(4) وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتاً للرب. لا تزرع حقلك ولا تقضب كرمك.
(5) زريع حصيدك لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف. سنة عطلة تكون للأرض.
(6) ويكون سبت الأرض لكم طعاماً. لك ولعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك.
(7) ولبهائمك وللحيوان الذي في أرضك تكون كل غلتها طعاماً.
وفي سفر التثنية، في الأصحاح الحادي والعشرين.
(18) وإذا كان لرجل ابنٌ معاندٌ وماردٌ ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما.
(19) يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه.
(20) ويقولون لشيوخ مدينته: ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكّير.
(21) فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت.
وفيه، في الأصحاح الثاني والعشرين:
(10) لا تحرث على ثور وحمار معاً.
(11) لا تلبس ثوباً مختلطاً صوفاً وكتاناً معاً.
وفيه، في الأصحاح الرابع والعشرين:
(1) إذا أخذ رجل امرأة، وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه؛ لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته.
(2) ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر.
(3) فإذا أبغضها الرجل الأخير، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة.
(4) لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود بأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست؛ لأن ذلك رجس لدى الرب.
وهذه نبذة يسيرة من الآصار التي كانت على الإسرائيليين ولم يشرعها لنا مولانا بفضله وكرمه له الحمد، إنه أرحم الراحمين.
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: من بليات الدنيا والآخرة. فالدعاء الأول في رفع شدائد التكليف، وهذا في رفع شدائد البليات. ويقال: هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة {وَاعْفُ عَنَّا} أي: تجاوز عن ذنوبنا ولا تعاقبا: {وَاغْفِرْ لَنَا} أي: غطّ على ذنوبنا واعف عنها: {وَارْحَمْنَآ} أي: تفضل علينا بالرحمة مع كوننا مقصرين مذنبين: {أَنتَ مَوْلاَنَا} أي: ولينا وناصرنا: {فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فإن من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولى أمره على الأعداء.
وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله تعالى، حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة، غاية مطلبهم.
قال البقاعي: فتضمن ذلك وجوب قتال الكافرين. وأنهم أعدى الأعداء. وأن قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ليس ناهياً عن ذلك، وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه. بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب. فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله، ومن أبى دخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام.
وقد ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات: قد فعلت».
وقد روى البخاري والجماعة عن أي: مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة، في ليلة، كفتاه».
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش، لم يعطهن نبي قبلي».
وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم: انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة. إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها. قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [االنجم: 16]، قال: فراش من ذهب قال، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفِر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً، المقحمات.
وعن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه فقال: «هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض. لم ينزل قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته». رواه مسلم والنسائي. وهذا لفظ مسلم.
وأخرج الترمذي والنسائي والدرامي والحاكم وصححه، عن النعمان بن بشير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات الأرض بألفي عام. أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة. ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان».
وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن الحسن: أنه كان إذا قرأ آخر البقرة قال: يا لك نعمة..! يا لك نعمة.
هذا، وقد روي في فضل سورة البقرة أحاديث كثيرة... منها ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عِمْرَان» وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: «كأنهما عمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق. أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما».
وأخرج أحمد والحاكم والدارمي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا سورة البقرة. فإن أخذها بركة. وتركها حسرة. ولا تستطيعها البطلة. تعلموا البقرة وآل عِمْرَان فإنهما هما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غماماتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما».
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر. إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة». ولفظ الترمذي: «وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان».
وأخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة. وفيها آية هي سيدة آي القرآن. آية الكرسي».
فائدة:
قال ابن القيم: تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله، وله الحمد كله، أزمّة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، وموردها إليه، مستوياً على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالماً بما في نفوس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي ويدبر، الأمور نازلة من عنده، دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه. فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائهم وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه! يذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها. ويحذّرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوّع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها. ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه. وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم غناءه عنهم وعن جميع الموجدات. وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه. وكل ما سواه فقير إليه. وأنه لا ينال أحدٌ ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته. ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته. وتشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب.
وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم، والدافع عنهم، والحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده.
وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، وينصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.
وإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً جواداً رحيماً جميلاً هذا شأنه، فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضى كل من سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره وتصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟!.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء حزننا، وأعنِّا على إكمال ما قصدناه بفضلك. يا أرحم الراحمين.